يوآف بيليد بدأ يتساءل عما إذا كان العالم قد أصيب بالجنون.
كان بيليد يجلس خارج مبنى كيريا في تل أبيب، يقص قطعاً من شريط أصفر يوم الخميس الماضي، ويوزعها على المارة. ترمز هذه الشرائط إلى التضامن مع نحو 240 رهينة تحتجزهم ح م ا س في غ ز ة.
هذا التضامن ــوعلى وجه التحديد ما إذا كان لا يزال يمتد إلى ما هو أبعد من حدود إسرائيل- هو الذي كان بيليد يشكك فيه.
قال : “كنت أعتبر نفسي جزءا من الليبراليين المتطرفين، مهما كانوا يسمون أنفسهم. لكن عندما أرى مظاهرات تحمل صيحات مؤيدة لح م ا س وأشياء من هذا القبيل، أشك فيما إذا كان العالم يفهم التعقيد… وعندما لا يستطيعون فهم التعقيد، فإنهم يرون أن هذا شيء أحادي الجانب وإحساسهم بالعدالة بسيط للغاية. لكن الأمر ليس بسيطا. أعتقد أن الحكومات تفهم ذلك، لكن الناس… لا أعرف”.
وبينما يواصل زعماء العالم تكثيف الضغوط على إسرائيل بشأن العدد المتزايد من القتلى المدنيين نتيجة قصفها لغ ز ة، وتتجمع حشود ضخمة في احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين في مدن مثل لندن وواشنطن العاصمة وبرلين وباريس وعمان والقاهرة – وكلها تقريبًا داعمة للمدنيين في غ ز ة، وليس ح م ا س، يشعر العديد من الإسرائيليين بالإحباط بسبب ما يعتبرونه معاملة غير متساوية.
إنه شعور يتخطى الانقسامات العميقة داخل المجتمع الإسرائيلي: العالم لا يفهمنا.
قالت سيغال يتسحاق : “العالم يحبنا كضحايا. يؤسفني أن أقول ذلك، لكن نعم، إنهم يحبون إسرائيل، ويتعاطفون مع اليهود عندما نكون ضحايا، وعندما يقتلوننا. لكن متى نفعل أشياء لحماية أنفسنا؟ لا”.
أحضرت يتسحاق، وهي معلمة في مدرسة دينية للبنات، بعض تلميذاتها إلى الساحة الصغيرة خارج كيريا حيث كان بيليد يوزع الشرطان. وأصبح المكان تجمعًا لعائلات الضحايا ومؤيديهم بعد هجمات 7 أكتوبر المميتة.
يتم عرض ملصقات الأشخاص المفقودين وصور الضحايا على جدار المجمع الحكومي، ويبدو أنه صف لا ينتهي من الوجوه المبتسمة لرجال ونساء وأطفال ورضع وجنود، وفي بعض الأحيان، عائلات بأكملها.
وقال الجيش الإسرائيلي إن أكثر من 1400 شخص قد قتلوا في الهجمات. وتم اختطاف حوالي 240 شخصًا، ويعتقد أنهم محتجزون لدى ح م ا س وآخرين في غ ز ة. وتم إطلاق سراح أربع نساء –أمريكيتين وإسرائيليتين– بينما أنقذ الجيش الإسرائيلي جندية واحدة.
قالت يتسحاق: “أعتقد أن أي دولة في العالم تجد نفسها في وضعنا ستفعل على الأرجح الكثير والكثير ولن يقول أحد أي شيء. إنهم اليهود فقط. لأنه لا يحق لليهود أن يعيشوا في بلد بسلام. هذا ما نريده. وأنا آسفة، لكن لا أحد يفهم ذلك”.
الغضب ضد نتنياهو
هناك الكثير من الحب خارج مجمع كيريا. يأتي بعض الناس إلى هنا للصلاة، وعناق بعضهم البعض، وقضاء الوقت معًا. جاءت مجموعة الطالبات التي أحضرتها يتسحاق ومعها العشرات من أرغفة الخبز الطازج، وهي لفتة قوية وذات معنى عميق في اليهودية.
ولكن هناك أيضًا الكثير من الغضب والإحباط. ويستهدف معظمه بشكل مباشر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وقال بيني زفايج، أستاذ علم الاجتماع والعلوم السياسية المتقاعد ، إنه يأتي إلى الميدان للاحتجاج ضد نتنياهو منذ اليوم الأول للحرب.
وقال وهو يحمل لافتة تصور نتنياهو وأعضاء آخرين في حكومته في السجن: “نوبتان في اليوم من الساعة العاشرة صباحًا حتى الساعة الواحدة ظهرًا، ومن الساعة الخامسة حتى الثامنة مساءً”.
ومثل كثيرين في إسرائيل، يلقي زفايج بعض اللوم في الهجوم …الذي شنته ح م ا س في 7 أكتوبر على نتنياهو. وقال: “كان ينبغي علينا القضاء على ح م ا س منذ وقت طويل، لكن بدلًا من ذلك بدأ نتنياهو في السماح بدخول الأموال القطرية”، في إشارة إلى قرار نتنياهو بالسماح لقطر بتحويل ملايين الدولارات إلى غ ز ة التي تديرها ح م ا س في عام 2018.
وقال زفايج: “لن تغير أجندة منظمة إرهابية بالمال. الآن، سيكون ثمن إزالتها أعلى بكثير”، على حد قوله.
لقد مر شهر تقريبًا منذ الهجوم، ولا يزال روبي تشين ليس لديه أي أخبار عن ابنه إيتاي. تم اختطاف إيتاي، وهو الابن الثاني من بين ثلاثة أبناء، وهو فتى كشافة سابق ولاعب كرة سلة شرس، في 7 أكتوبر.
ومثل العديد من العائلات التي لديها أحباء محتجزين في غ ز ة، يضغط تشين على الحكومة الإسرائيلية للقيام بكل ما في وسعها لإعادة الرهائن إلى وطنهم. قال: “لا ينبغي أن يكون الهدف المشترك الثاني للحرب، يجب أن يكون الهدف الأول والثاني والثالث هو إعادة الرهائن”.
تجمع تشين ومئات من أفراد عائلات الرهائن الآخرين ليلة السبت خارج كيريا للمطالبة “بإجراءات أكبر من جانب الحكومة”.
لقد نصبوا الخيام في الساحة، وتعهدوا بالبقاء حتى يتم إطلاق سراح أطفالهم وإخوتهم وآبائهم وأجدادهم وأحبائهم الآخرين.
وقال منظمو الحدث إنه لم يكن “احتجاجًا مناهضًا للحكومة”، لكن إحباطهم كان واضحًا.
كان العديد من عائلات الرهائن مترددين في انتقاد حكومة نتنياهو في الأيام الأولى بعد هجوم ح م ا س … لكن ذلك قد تغيرالآن.
وتحدث بيان شديد اللهجة أصدره منتدى أسر الرهائن والمفقودين الأسبوع الماضي عن “الغضب الهائل” لأن الحكومة لم تتحدث معهم بشأن العملية في غ ز ة.
وأدى لقاء متوتر بين نتنياهو وبعض العائلات إلى مزيد من السجالات الساخنة، بما في ذلك مطالبة الحكومة بالنظر في صفقة “الجميع مقابل الجميع” التي طرحتها ح م ا س في بيان أصدرته الحركة في الأسبوع الماضي.
وتشمل مثل هذه الصفقة تبادل الرهائن مع الفلسطينيين المحتجزين حاليًا في السجون الإسرائيلية أي حوالي 6630 شخصًا، وفقًا لتقديرات نادي الأسير الفلسطيني.
سيكون الأمر مثيرًا للجدل إلى حد كبير لأن العديد من السجناء إما أدينوا أو احتُجزوا بتهم أو شبهات تتعلق بأعمال تصفنها إسرائيل “إرهابية”.
ورفض الجيش الإسرائيلي عرض ح م ا س باعتباره أداة “للإرهاب النفسي الذي يهدف إلى التلاعب بالمدنيين الإسرائيليين”.
وافقت إسرائيل في أكتوبر 2011 على تبادل جلعاد شاليط، جندي الجيش الإسرائيلي الذي اختطفته ح م ا س في عام 2006، بأكثر من 1000 أسير فلسطيني، بما في ذلك من تصنفهم إسرائيل بـ”الإرهابيين المدانين” الذين قاموا بتنفيذ المزيد من الهجمات. وكان يحيى السنوار، الذي يرأس حركة ح م ا س في غ ز ة والذي تم تعريفه من قبل الجيش الإسرائيلي كأحد العقول المدبرة لهجمات 7 أكتوبر، أحد الذين تم إطلاق سراحهم في الصفقة.
وقال تشن إنه لا يزال يعتقد أن الحكومة يجب أن تفعل كل ما في وسعها لضمان إطلاق سراح الرهائن: “لست في وضع يسمح لي بفهم الديناميكيات. وفي نهاية المطاف، ننظر إلى النتائج النهائية… وما زلت لا أعرف إذا كان إبني حيًا أم ميتًا”. وأضاف: “هذا هو بيت القصيد”.
وقالت العائلات إنه لا ينبغي الاتفاق على وقف لإطلاق النار حتى يتم إطلاق سراح جميع الرهائن.
والبلاد في ذلك خلفهم، حيث يتصاعد الغضب بشأن استجابة الحكومة للأزمة حتى بين بعض الأشخاص الذين دعموا نتنياهو وحكومته في السابق.
قالت يتسحاق: “لقد قمت بالتصويت لشخص آخر، ولكن أعتقد أنه فعل أشياء رائعة لإسرائيل، لقد كان جنديًا، وكان جنديًا شجاعًا، لكنه كان رئيسًا للوزراء لمدة 15 عاما، لذلك فهو المسؤول وعليه أن يذهب. أعتقد أن الجميع يعرف هذا وهو يعرف ذلك أيضًا”.
وانهار الدعم لنتنياهو وحكومته، حيث أظهر أحدث استطلاع للرأي أجرته جامعة تل أبيب لوسائل الإعلام الإسرائيلية أن الغالبية العظمى من الإسرائيليين يريدون استقالة نتنياهو.
ولكن على الرغم من انخفاض معدلات التأييد للحكومة، فإن قرار شن الحرب على ح م ا س يحظى بدعم قوي من أغلب الإسرائيليين اليهود على الرغم من الانتقادات الدولية القوية.
وبينما لا يوافق معظم مواطني إسرائيل العرب والفلسطينيين، وأقلية صغيرة من اليهود على الحرب، فإن الحملة واسعة النطاق ضد حرية التعبير تعني أن أي شكل من أشكال المعارضة للحرب أمر محفوف بالمخاطر.
وتم اعتقال العشرات من السكان الفلسطينيين والمواطنين في إسرائيل بسبب تعبيرهم عن تضامنهم مع غ ز ة وسكانها المدنيين. وقالت الشرطة الإسرائيلية إنها اعتقلت حتى 25 أكتوبر، 110 أشخاص منذ بداية الحرب بزعم “التحريض على العنف والإرهاب”، معظمهم على وسائل التواصل الاجتماعي. ومن بين هذه الاعتقالات، أسفرت 17 حالة عن تقديم لوائح اتهام.
إن المظاهر العلنية للتضامن مع غ ز ة أو انتقاد الرد العسكري الإسرائيلي قليلة ومتباعدة. وتم حظر المظاهرات المناهضة للحرب، وتم اعتقال أكثر من 100 شخص لنشرهم رسائل تضامن مع غ ز ة على وسائل التواصل الاجتماعي.
“خط رفيع للغاية” في انتقاد إسرائيل
وقال يوناتان رابابورت في ميدان صهيون بوسط مدينة القدس الخميس: “عمري 22 عامًا، وقد حضرت أربع جنازات في الأسابيع الأربع الماضية، وجنازتين أخريين في العام الماضي، عندما قُتل اثنان من أصدقائي في هجمات إرهابية”.
وقال رابابورت، وهو موسيقي أنهى مؤخراً خدمته العسكرية الإجبارية في البحرية الإسرائيلية -بما في ذلك القيام بدوريات حول قطاع غ ز ة- إنه يشعر أيضًا بالإحباط من رد فعل العالم على الأحداث في غ ز ة.
وأضاف: “عندما يسأل الناس: لماذا نستولي على غ ز ة؟ ما لا أفهمه هو – أليس لدينا الحق في حماية المدنيين والجنود لدينا؟ ما هو الرد المتناسب؟ نحن نحاول ألا نقتل المدنيين”.
وتابع: “هذا الصراع (بين إسرائيل والفلسطينيين) ليس بين البيض والسود، ولكن هذه حرب (مع ح م ا س)”. وأضاف: “هناك انتقادات مشروعة للغاية للحكومة الإسرائيلية وإسرائيل، ولكن هناك خط رفيع للغاية تم تجاوزه في الكثير من هذه المحادثات بين انتقاد إسرائيل وكراهية اليهود. يمكنك انتقاد احتلال إسرائيل للضفة الغربية أو غ ز ة، لكن لا يمكنك أن تقول أوه، لذلك لا بأس بقتل 1400 مدني”.
وقال رابابورت إنه انتقد حكومة نتنياهو قبل الحرب، وعارض خططه لإصلاح النظام القضائي – وهو خط الصدع الرئيسي الذي قسم البلاد.
وأضاف: “بعد الحرب، أعتقد أن الحكومة بأكملها يجب أن ترحل. لكن الآن… نحن في حالة حرب. أنا لا أثق بنتنياهو كشخص، لكن علي أن أثق به كزعيم”.
في وقت لاحق من تلك الليلة، انضم رابابورت إلى دائرة كبيرة من الموسيقيين ومعظمهم من الشباب الجالسين في ميدان صهيون. كانوا يعزفون على الغيتار ويغنون الأغاني الإسرائيلية الكلاسيكية.
وتراوحت الأغاني بين الحزن والأمل. ومن بينها أغنية “Lu Yehi”، وهي أغنية مستوحاة من أغنية فرقة البيتلز “Let It Be”. كتبت القصيدة نعومي شيمر في عام 1973، خلال الأيام الأولى من حرب السادس من أكتوبر التي تطلق عليها إسرائيل “يوم الغفران”، ومنذ ذلك الحين أصبحت مرادفة لتلك الحرب والأمل في انتصار إسرائيل.
ترددت كلمات الأغنية في ميدان صهيون ليلة الخميس، بعد مرور 50 عامًا تقريبًا على ظهورها لأول مرة ومع دخول إسرائيل في الحرب مرة أخرى.