ناصر بن حسن الشيخ يكتب : لحظة مينسكي.. هل نحن على شفا أزمة مالية عالمية جديدة؟

لحظة مينسكي (Minsky Moment) مصطلح إقتصادي يشير إلى الإنهيار المفاجئ لقيم الأصول بعد فترة من النمو الاقتصادي، الذي يكون غالبًا مدفوعًا بالديون المفرطة والاستثمار المضارب، ويعود تسمية هذه الظاهرة إلى عالم الاقتصاد هيمان مينسكي الذي حلل مراحل عدم استقرار الأسواق المالية تاريخيا وانهياراتها المفاجئة، وخرج بأن تلك اللحظة تتشكل من خلال المرور بثلاث مراحل: مرحلة التحوط (Hedge) ومرحلة المضاربة (Speculative) ومرحلة البونزي (Ponzi).

في مرحلة التحوط يكون المقترضون قادرين على سداد الديون والفوائد المستحقة عليها، ذلك لسياساتهم الاستثمارية المتحفظة وانتهاجهم تقييما ملتزما للمخاطر، إلا أنه مع ارتفاع وتيرة النمو الاقتصادي يبدأ معظمهم بالتخلي عن الالتزام والاتجاه نحو المضاربة، ومعها تتقلص ملاءة المقترضين المالية لتنحصر قدرتهم في سداد فوائد الديون فقط، معتمدين على قيمة الأصول لتغطية المبالغ الأصلية المقترضة، لتنتقل من هناك لمرحلة البونزي، التي يصبح فيها المقترضون غير قادرين على سداد الديون أو فوائدها، آملين في نمو قيمة الأصول فقط لسداد الديون أو إعادة تمويلها.

وعندما تنفجر فقاعة الأصول تحدث “لحظة مينسكي”، مما يؤدي إلى تهاوي سريع في قيمها وزيادة كبيرة في التخلف عن السداد، مبرزة مع ذلك تحديات جسيمة للنظام المالي برمته، ولعل الأزمة المالية العالمية عام 2008 أبرز مثال قريب على وقوع “لحظة مينسكي”.

ومنذ بداية جائحة كوفيد-19 شهد الاقتصاد العالمي تقلبات كبيرة وتغيرات جذرية في السياسات النقدية والمالية، فمع توقف عجلة الاقتصاد بشكل شبه تام اتخذت الحكومات والمصارف المركزية حول العالم إجراءات استثنائية لحماية الأفراد والاقتصادات بغية تحقيق التوازن، بما في ذلك خفض أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية شبه صفرية وتنفيذ برامج تحفيز ضخت سيولة في أيادي المستهلكين والأسواق بشكل غير مسبوق.

تلك التدابير أدت إلى تعافي سريع في الأسواق المالية، التي بلغت مستويات قياسية وشهدت ارتفاع قيمة الأصول في مختلف القطاعات، لكنها من جانب آخر أسهمت في تشكيل مخاطر تشير إلى أن الأسواق المالية الحالية قد تكون على حافة تحديات جسيمة أبرزها:

1.    مستويات الديون المرتفعة: أدت الجائحة إلى زيادة مستويات الديون العامة والخاصة بشكل مهول، حيث اضطرت الحكومات إلى الاقتراض بشكل مكثف لتمويل التحفيز الاقتصادي، واعتمدت الشركات والأفراد على الائتمان الرخيص للتكيف مع الظروف الاقتصادية الصعبة. يمكن أن تؤدي هذه الديون المتراكمة إلى نقطة تحول تجعل النظام المالي عرضة للصدمات التي بدأنا برؤية بعض ملامحها في تراجع أسواق الأسهم العالمية عن قممها وتعثر عدة بنوك غربية وتخلف حكومات عن السداد.

2.    الاستثمار المضارب: أدت أسعار الفائدة المنخفضة إلى زيادة البحث عن عوائد أعلى من قبل المستثمرين، مما دفعهم إلى تحمل مخاطر أعلى في الاستثمارات المضاربة، وأدت زيادة الاستثمار المضارب إلى تكوين فقاعات في أسواق الأصول، مما يجعلها أكثر عرضة لتلقي ضربات تهوي بقيمها.

3.    تقييمات الأصول المرتفعة: تشهد الأسواق المالية تقييمات مرتفعة للأصول عبر العديد من القطاعات، بما في ذلك الأسهم والعقارات والسندات، هذه التقييمات المرتفعة غير مستدامة على المدى الطويل وقد تؤدي إلى انهيارات سعرية في حالة حدوث تحولات اقتصادية سلبية.

4.    التضخم: شهدت الاقتصادات زيادة في معدلات التضخم بسبب الإجراءات التحفيزية الضخمة والضغوط على سلسلة التوريد العالمية، مما دفع المصارف المركزية لتشديد السياسة النقدية عبر رفع معدلات الفائدة، الأمر الذي يرفع من كلفة القروض وينبئ بتعثر بعض الحكومات والشركات.

وبالرغم من حالة التقلب وعدم اليقين التي يعيشها الاقتصاد العالمي، إلا أن الحكومات عملت جاهدة لتجنب وقوع “لحظة مينسكي”، حيث شهدنا بعد تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني وتعثر كبار مطوريه العقاريين حزمة من الإجراءات الحكومية لبث الاستقرار فيه، كما نشاهد الفيدرالي الأمريكي في خضم حربه الشرسة ضد التضخم وهو يسعى لتحاشي وقوع الاقتصاد الأمريكي في كماشة الركود، بالرغم من الأحداث الجيوسياسية العالمية التي تجعل من الأمر أكثر صعوبة.

هل تنجح الجهات التنظيمية في السوقين الأكبر عالميا للحيلولة دون وقوع “لحظة مينسكي” وتحولها إلى أزمة مالية عالمية؟ لا أحد يعلم لكن الكل يراقب، إذ كما يقال.. إن عطست الولايات المتحدة الأمريكية أصيب العالم كله بنزلة برد، ولا مبالغة في ذلك حيث إننا نلمس أثر القرارات الأمريكية في حياتنا اليومية، إذ ما أن يرفع الفيدرالي الأمريكي مستوى الفائدة إلا وتتبعه المصارف المركزية في العالم كليا أو جزئيا، إذعانا للمركز المتفرد الذي يلعبه الدولار الأمريكي في النظام المالي العالمي وكونه عملة احتياطه بلا منازع.

يضاف إلى ضبابية المشهد أن “الضرورة تبيح المحظورات”، بمعنى ما أن تواجه الدول تحديات جسيمة إلا وتتخلى عن بعض التزاماتها، تماما كما تراجعت الدول الغربية عن قيود إنتاج النفط وتوليد الكهرباء من حرق الفحم لمجابهة ارتفاع أسعار الطاقة، متخلية عن التزماتها فيما يخص التغير المناخي، لذا ليس هناك فهم مسبق لآثار لحظة مينسكي لكن هناك تصور واضح لانعكاساتها السلبية ليست المالية والاقتصادية فحسب.. إنما أيضا الاجتماعية والبيئية.

ختاما، لا يمكننا الجزم بوجود لحظة مينسكي في الأفق، ولكن من الحكمة أن نكون على دراية بالمخاطر المحتملة وأن نتعلم من الأخطاء الماضية، وأن نعي أن تعزيز الاستقرار المالي وتحقيق نمو اقتصادي مستدام يتطلب جهوداً مشتركة ومتواصلة من جميع الأطراف المعنية.

عن admin

شاهد أيضاً

رد “لاذع” من زيلينسكي على تصريح بوتين عن “مبارزة الصواريخ”

 رد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بشكل لاذع على تصريحات قالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *